فصل: الحديث الحَادِي بعد السِّتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث السَّادِس وَالسَّابِع بعد الْأَرْبَعين:

قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أَن عوفًا ومعوذًا ابْني عفراء خرجا يَوْم بدر فَلم يُنكر عَلَيْهِمَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم».
هُوَ كَمَا قَالَ. وَقد أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْهُمَا. وَقد سلف وَاضحا فِي كتاب قسم الْفَيْء وَالْغنيمَة.

.الحديث الثَّامِن بعد الْأَرْبَعين:

قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أَن عبد الله بن رَوَاحَة خرج يَوْم بدر إِلَى البرَاز، وَلم يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم».
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق عَن عَاصِم بن عمر، بن قَتَادَة «أَن عتبَة بن ربيعَة خرج بأَخيه شيبَة وَابْنه الْوَلِيد حَتَّى وصل من الصَّفّ دَعَا إِلَى المبارزة فَخرج إِلَيْهِ ثَلَاثَة نفر من الْأَنْصَار: عبد الله بن رَوَاحَة ومعوذ وعَوْف ابْنا عفراء. فَقَالُوا: من أَنْتُم؟ قَالَ: نَحن رَهْط من الْأَنْصَار. فَقَالُوا: أكفاء كرام، مَا لنا بكم حَاجَة، إِنَّا نُرِيد قَومنَا. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: قُم يَا عُبَيْدَة بن الْحَارِث، وقم يَا حَمْزَة، وقم يَا عَلّي. فَفَعَلُوا، فَلَمَّا دنوا مِنْهُم. قَالُوا: من أَنْتُم؟ فانتسبوا. فَقَالُوا: أكفاء كرام» ذكر هَذَا الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن الْحَافِظ أبي الْقَاسِم بن عَسَاكِر فِي كِتَابه فَضَائِل الْجِهَاد من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم. قَالَ: أَخْبرنِي غير وَاحِد عَن ابْن إِسْحَاق.. فَذكره. وَكَانَ السِّيَاق أَولا فِي حَدِيث بدر.

.الحديث التَّاسِع بعد الْأَرْبَعين:

قَالَ الرَّافِعِيّ: فِي نقل رُءُوس الْكفَّار إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وَجْهَان: أَحدهمَا: لَا يكره؛ لِأَن أَبَا جهل لما قتل حمل رَأسه. وأصحهما: أَنه يكره، وَهُوَ الَّذِي أوردهُ أَصْحَابنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقَاضِي الرَّوْيَانِيّ، قَالُوا: مَا حمل إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأس كَافِر قطّ، وَحمل إِلَى عُثْمَان رُءُوس جمَاعَة من الْمُشْركين فَأنكرهُ. وَقَالَ: مَا فعل هَذَا فِي عهد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا فِي أَيَّام أبي بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وَمَا رُوِيَ من حمل الرَّأْس إِلَى أبي بكر فقد تكلمُوا فِي ثُبُوته، وَبِتَقْدِير الثُّبُوت فَإِنَّهُ حمل فِي الْوَقْعَة من مَوضِع إِلَى مَوضِع وَلم ينْقل من بلدٍ إِلَى بلد، فكأنهم أَرَادوا أَن ينظر النَّاس إِلَيْهِ فيتحققوا بِمَوْتِهِ.
هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ. وَقد اشْتَمَل عَلَى حَدِيث وأثرين، أما الحَدِيث وَهُوَ حمل رَأس أبي جهل فَأخْرجهُ أَبُو نعيم فِي معرفَة الصَّحَابَة فِي تَرْجَمَة معَاذ بن عَمْرو بن الجموح قَاتله وَأَن ابْن مَسْعُود حزَّها وَجَاء بهَا إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَوَاهُ كَذَلِك أَيْضا الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه عَن أبي بشر بكر بن خلف، نَا سَلمَة بن رَجَاء، عَن شعثاء الكوفية، عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى يَوْم بُشر بِرَأْس أبي جهل رَكْعَتَيْنِ». إِسْنَاده جيد. وَلَا يضر كَلَام بَعضهم فِي سَلمَة بن رَجَاء فقد احْتج بِهِ البُخَارِيّ وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ. قَالَ الْعقيلِيّ: «صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حِين أُتِي بِرَأْس أبي جهل» لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذِهِ الطّرق.
وَأما أثر عُثْمَان فَهُوَ كَذَلِك فِي بعض النّسخ الْمُعْتَمدَة وَهُوَ فِي بَعْضهَا: عَن أبي بكر وَهُوَ الصَّوَاب، وَقد أخرجه كَذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه وَبَوَّبَ بَابا فِيمَا جَاءَ فِي نقل الرُّءُوس. فروَى عَن عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ «أَن عَمْرو بن العَاصِي وشرحبيل ابْن حَسَنَة بعثا عقبَة بريدًا إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِرَأْس ينَّاق بطرِيق الشَّام- قلت: وَهُوَ بياء مثناة تَحت مَفْتُوحَة ثمَّ نون مُشَدّدَة ثمَّ ألف ثمَّ قَاف- فَلَمَّا قدم عَلَى أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنكر ذَلِك. فَقَالَ لَهُ عقبَة: يَا خَليفَة رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُم يصنعون ذَلِك بِنَا. قَالَ: أفاستنان بِفَارِس وَالروم؟! لَا يحمل إليَّ رَأس وَإِنَّمَا يَكْفِي الْكتاب وَالْخَبَر». وَإِسْنَاده صَحِيح.
والبطريق- بِكَسْر الْبَاء- وَهُوَ كالأمير. قَالَ ابْن الجواليقي: البطريق بلغَة الرّوم هُوَ الْقَائِد أَي: مقدم الجيوش وأميرها، وَجمعه بطارقة وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب.
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن مُعَاوِيَة بن خديج قَالَ: «هاجرنا عَلَى عهد أبي بكر الصّديق فَبَيْنَمَا نَحن عِنْده إِذْ طلع الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ. قَالَ: إِنَّه قدم علينا بِرَأْس يناق البطريق وَلم يكن لنا بِهِ حَاجَة إِنَّمَا هَذِه سنة الْعَجم». وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي أَن أَبَا بكر الصّديق أُتِي بِرَأْس. فَقَالَ: بغيتم. وَعَن معمر. قَالَ: حَدثنِي صَاحب لنا عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: «لم يكن يحمل إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأس إِلَى الْمَدِينَة قطّ وَلَا يَوْم بدر. وَحمل إِلَى أبي بكر رَأس فَأنْكر ذَلِك. قَالَ: وَأول من حملت إِلَيْهِ الرُّءُوس عبد الله بن الزبير». وَذكر الْبَيْهَقِيّ فِي الْبَاب قبله عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «جِئْت إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَأْس مرحب». قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأما حَدِيث أبي دَاوُد الَّذِي رَوَاهُ فِي مراسيله عَن أبي نَضرة قَالَ: «لَقِي رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَدو. فَقَالَ: من جَاءَ بِرَأْس فَلهُ عَلَى الله مَا تمنى. فَجَاءَهُ رجلَانِ بِرَأْس فاختصما فِيهِ فَقَضَى بِهِ لأَحَدهمَا» فمنقطع. قَالَ أَبُو دَاوُد: فِي هَذَا أَحَادِيث عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يَصح مِنْهَا شَيْء. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِيه- إِن ثَبت- تحريض عَلَى قتل الْعَدو، وَلَيْسَ فِيهِ نقل الرَّأْس من بِلَاد الشّرك إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام.
قلت: وَأما الحَدِيث الْمَشْهُور فِي النَّسَائِيّ وَغَيره من حَدِيث عبد الله بن فَيْرُوز الديلمي، عَن أَبِيه. قَالَ: «أتيت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَأْس الْأسود الْعَنسِي». فراويه ضَمرَة ثِقَة؛ لكنه لم يُتَابع عَلَيْهِ. قَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي الكنى: هُوَ وهم لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام ذكر خُرُوج الْعَنسِي صَاحب صنعاء ومسيلمة صَاحب الْيَمَامَة بعده لَا فِي حَيَاته. الثَّانِي: أَن الْأسود بن كَعْب الْعَنسِي قتل سنة إِحْدَى عشرَة فِي عهد أبي بكر، قَتله فَيْرُوز الديلمي. وَخَالف ابْن الْقطَّان فَقَالَ: رِجَاله كلهم ثِقَات وَمَا يُقَال أَن ضَمرَة لَا يُتَابع عَلَيْهِ فَإِنَّهُ ثِقَة، وَلأَجل انْفِرَاده بِهِ قيل إِنَّه غَرِيب. قَالَ: وَأما قَول عبد الْحق إِثْر هَذَا الحَدِيث يُقَال إِن الْخَبَر بقتل الْأسود لم يجِئ إِلَّا إِثْر موت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ لَا يَصح، والإخباريين يَقُولُونَهُ عَلَى أَنه لَيْسَ فِيهِ نصًّا أَنه صَادف رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ أَنه أَتَى بِهِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاصِدا إِلَيْهِ وافدًا عَلَيْهِ مبادرًا بالتبشير بِالْفَتْح، فصادفه قد مَاتَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.

.الحديث الخَمْسُونَ:

قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأما الرِّجَال الْأَحْرَار الكاملون إِذا أسروُا فالإمام يتَخَيَّر فيهم بَين أَرْبَعَة أُمُور: أَن يقتلهُمْ صبرا، وَأَن يمن عَلَيْهِم، وَأَن يفاديهم بِالْمَالِ أَو الرِّجَال، وَأَن يسترقهم، وَبِهَذَا قَالَ أَحْمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يتَخَيَّر الإِمَام بَين الْقَتْل والاسترقاق لَا غير. وَقَالَ مَالك: يتَخَيَّر بَين الْقَتْل والاسترقاق وَالْفِدَاء وَإِنَّمَا يجوز الْفِدَاء بِالرِّجَالِ دون المَال، لنا قَوْله تَعَالَى: {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء} وكل وَاحِد من الْأُمُور قد نقل من فعل رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقتل يَوْم بدر عقبَة بن أبي معيط وَالنضْر بن الْحَارِث، ومنَّ عَلَى أبي عزة الجُمَحي عَن أَن لَا يقاتله فَلم يَفِ، فقاتله يَوْم أحد فَأسر وَقتل يَوْمئِذٍ. وَعَن عمرَان بن الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَادَى رجلا أسره أَصْحَابه برجلَيْن أسرتهمَا ثَقِيف من أَصْحَابه» وَأخذ المَال فِي فدَاء أَسْرَى بدر مَشْهُور، ومنّ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى أبي الْعَاصِ بن الرّبيع وَعَلَى ثُمَامَة ابْن أَثَال الْحَنَفِيّ.
هَذَا آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ وَقد اشْتَمَل عَلَى أَحَادِيث: أَحدهَا: وَهُوَ الْخَمْسُونَ.
وَثَانِيهمَا:

.وَهُوَ الحَدِيث الْحَادِي بعد الْخمسين:

قَالَ الشَّافِعِي: أسر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل بدر فَمنهمْ من منَّ عَلَيْهِ بِلَا أَخْذَة مِنْهُ، وَمِنْهُم من أَخذ مِنْهُ فديَة، وَمِنْهُم من قَتله، وَكَانَ المقتولان بعد الإسار يَوْم بدر عقبَة بن أبي معيط وَالنضْر بن الْحَارِث.
قَالَ الشَّافِعِي: وَأَنا عدد من أهل الْعلم من قُرَيْش وَغَيرهم من الْعلم بالمغازي «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أسر النَّضر بن الْحَارِث الْعَبْدي يَوْم بدر وَقَتله بالنازية أَو الأُثَيِّل صبرا، وَأسر عقبَة بن أبي معيط يَوْم بدر فَقتله صبرا» وَفِي الْإِكْمَال لِابْنِ مَاكُولَا أَن عليًّا قتل النَّضر بن الْحَارِث بِأَمْر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي أَحْكَام الطَّبَرِيّ عَن ابْن هِشَام «أَن عليًّا قَتله صبرا عِنْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بالصفراء» فِيمَا يذكرُونَ. وَذكر ابْن حبيب أَنه أسلم فَالله أعلم أَيهمَا أصح. وَأما ابْن قُتَيْبَة فَذكر أَنه قتل صبرا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن سهل بن أبي حثْمَة، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أقبل بالأسارى حَتَّى إِذا كَانَ بعرق الظبية أَمر عَاصِم بن ثَابت بن أبي الأقلح أَن يضْرب عنق عقبَة بن أبي معيط فَجعل عقبَة يَقُول: يَا ويلاه، علام أقتل من بَين هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: لعداوتك لله وَلِرَسُولِهِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، منُّك أفضل، فَاجْعَلْنِي كَرجل من قومِي، إِن قَتلتهمْ قتلتني، وَإِن مننت عَلَيْهِم مننت عليَّ، وَإِن أخذت مِنْهُم الْفِدَاء كنت كأحدهم، يَا مُحَمَّد من للصبية؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: النَّار، يَا عَاصِم بن ثَابت، قدمه فَاضْرب عُنُقه. فَضرب عُنُقه». قَالَ ابْن دحْيَة فِي تنويره: «ثمَّ أَمر بصلبه فَهُوَ أول مصلوب فِي الْإِسْلَام». حَكَاهُ القعْنبِي وَفِي أَفْرَاد الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود: «النَّار لَهُم ولأبيهم».

.الحديث الثَّانِي بعد الْخمسين:

قَالَ الشَّافِعِي: كَانَ من الْمَمْنُون عَلَيْهِم بالأفدية أَبُو عزة الجُمَحِي تَركه رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لبنَاته، وَأخذ عَلَيْهِ عهدا أَن لَا يقاتله، فأخفره وقاتله يَوْم أحد، فَدَعَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا يفلت، فَمَا أسر يَوْمئِذٍ رجل غَيره. فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، اُمْنُنْ عليّ وَدعنِي لبناتي وَأُعْطِيك عهدا أَن لَا أَعُود لِقِتَالِك. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تمسح عَلَى عَارِضَيْك بِمَكَّة تَقول: قد خدعت مُحَمَّدًا مرَّتَيْنِ. فَأمر بِهِ فضربتْ عُنُقه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد روينَا فِي ذَلِك عَن غير الشَّافِعِي، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «أَمن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأسَارَى يَوْم بدر أَبَا عزة عبد الله بن عَمْرو الجُمَحِي، وَكَانَ شَاعِرًا وَكَانَ قَالَ للنَّبِي: يَا مُحَمَّد، إِن لي خمس بَنَات لَيْسَ لَهُنَّ شَيْء فَتصدق بِي عَلَيْهِنَّ فَفعل. وَقَالَ أَبُو عزة: أُعْطِيك موثقًا أَن لَا أقاتلك وَلَا أَكثر عَلَيْك أبدا. فَأرْسلهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا خرجت قُرَيْش إِلَى أحد جَاءَهُ صَفْوَان بن أُميَّة فَقَالَ: اخْرُج مَعنا. فَقَالَ: إِنِّي قد أَعْطَيْت مُحَمَّدًا موثقًا أَن لَا أقاتله. فضمن صَفْوَان أَن يَجْعَل بَنَاته مَعَ بَنَاته إِن قتل، وَإِن عَاشَ أعطَاهُ مَالا كثيرا، فَلم يزل بِهِ حَتَّى خرج مَعَ قُرَيْش يَوْم أحد فَأسر وَلم يؤسر غَيره من قُرَيْش. فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِنَّمَا خرجت كرها ولي بَنَات فَامْنُنْ عَلّي. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيْن مَا أَعْطَيْتنِي من الْعَهْد والميثاق، لَا وَالله لَا تمسح بعارضيك بِمَكَّة تَقول: سخرت بِمُحَمد مرَّتَيْنِ. قَالَ سعيد بن الْمسيب: فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الْمُؤمن لَا يلْدغ من جحرٍ مرَّتَيْنِ، يَا عَاصِم بن ثَابت، قدمه فَاضْرب عُنُقه. فقدمه فَضرب عُنُقه».
قَالَ الْمُحب فِي أَحْكَامه وَفِي كتاب السَّرقة: «إِن أول من علق رَأسه فِي الْإِسْلَام جعل فِي رمح وَحمل إِلَى الْمَدِينَة يَوْم أحد...».

.الحديث الثَّالِث بعد الْخمسين:

عَن عمرَان بن الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَت ثَقِيف حلفا لبني عقيل، فأسرت ثَقِيف رجلَيْنِ من أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأسر أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا من بني عقيل وَأَصَابُوا مَعَه العضباء، فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الوثاق، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد. فَأَتَاهُ قَالَ: مَا شَأْنك؟ فَقَالَ: بِمَ أخذتني وَأخذت سَابِقَة الْحَاج- يَعْنِي العضباء-؟ فَقَالَ: أخذتك بجريرة حلفائك ثَقِيف. ثمَّ انْصَرف عَنهُ، فناداه فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد. وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم رحِيما رَقِيقا قَالَ: مَا شَأْنك؟ قَالَ: إِنِّي مُسلم. قَالَ: لَو قلتهَا وَأَنت تملك أَمرك أفلحت كل الْفَلاح. ثمَّ انْصَرف عَنهُ فناداه: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد. فَأَتَاهُ فَقَالَ: مَا شَأْنك؟ قَالَ: إِنِّي جَائِع فأطعمني وظمآن فاسقني. قَالَ: هَذِه حَاجَتك. ففدي بِالرجلَيْنِ».
رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه بِكُل هَذِه الْحُرُوف. وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ وصَحِيح ابْن حبَان عَن عمرَان أَيْضا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام فدى رجلَيْنِ من الْمُسلمين بِرَجُل من الْمُشْركين». قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي أعْطى رجلا من الْمُشْركين وَأخذ رجلَيْنِ من الْمُسلمين.

.الحديث الرَّابِع بعد الْخمسين:

قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأخذ المَال فِي فدَاء أَسْرَى بدر مَشْهُور.
هُوَ كَمَا قَالَ. وَقد ورد ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث: أَحدهَا: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «لما كَانَ يَوْم بدر نظر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمُشْركين وهم ألف وَأَصْحَابه ثَلَاثمِائَة وَتِسْعَة عشر رجلا، فَاسْتقْبل نَبِي الله الْقبْلَة ثمَّ مد يَده فَجعل يَهْتِف بربه يَقُول: اللَّهُمَّ أنْجز لي مَا وَعَدتنِي، اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة من أهل الْإِسْلَام لَا تعبد فِي الأَرْض. فَمَا زَالَ يَهْتِف بربه مادًّا يَدَيْهِ حَتَّى سقط رِدَاؤُهُ عَن مَنْكِبه، فَأَتَاهُ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَأخذ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبه ثمَّ الْتَزمهُ من وَرَائه، وَقَالَ: يَا نَبِي الله، كَذَاك مُنَاشَدَتك رَبك؛ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَك مَا وَعدك. فَأنْزل الله عَزَّ وَجَلَّ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ فأيده الله بِالْمَلَائِكَةِ». قَالَ سماك فَحَدثني ابْن عَبَّاس قَالَ: «بَيْنَمَا رجل من الْمُسلمين يومئذٍ يشْتَد فِي أثر رجل من الْمُشْركين أَمَامه إِذْ سمع ضَرْبَة بِالسَّوْطِ فَوْقه وَصَوت الْفَارِس يَقُول: أقدم حيْزُوم. إِذْ نظر إِلَى الْمُشرك أَمَامه خر مُسْتَلْقِيا فَنظر إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ قد خطم أَنفه وشق وَجهه بِضَرْب السَّوْط فاخضر ذَلِك أجمع، فجَاء الْأنْصَارِيّ فحدَّث بذلك رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: صدقت، ذَلِك من مدد السَّمَاء الثَّالِثَة. فَقتلُوا يَوْمئِذٍ سبعين وأسروا سبعين. قَالَ ابْن عَبَّاس: فَلَمَّا أَسرُّوا الْأسَارَى قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر وَعمر: مَا ترَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأسَارَى؟ فَقَالَ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يَا رَسُول الله، بَنو الْعم وَالْعشيرَة، أرَى أَن تَأْخُذ مِنْهُم فديَة فَتكون لنا قُوَّة عَلَى الْكفَّار، فَعَسَى الله أَن يهْدِيهم إِلَى الْإِسْلَام. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا ترَى يَا ابْن الْخطاب؟ قَالَ: قلت: لَا وَالله يَا رَسُول الله مَا أرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بكر، وَلَكِنِّي أرَى أَن تمَكنا من أَعْنَاقهم فَنَضْرِب أَعْنَاقهم، فَتمكن عليًّا من عقيل، وَتُمَكِّنِّي من فلَان- نسيبًا لعمر- فَأَضْرب عُنُقه؛ فَإِن هَؤُلَاءِ أَئِمَّة الْكفْر وصناديها؛ فهوى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ أَبُو بكر وَلم يَهو مَا قلت. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد جِئْت فَإِذا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر قَاعِدين يَبْكِيَانِ. فَقلت: يَا رَسُول الله، أَخْبرنِي من أَي شَيْء تبْكي أَنْت وَصَاحِبك، فَإِن وجدت بكاء بَكَيْت وَإِن لم أجد بكاء تَبَاكَيْت ببكائكما. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: أبْكِي للَّذي عرض علىَّ أَصْحَابك من أَخذهم الْفِدَاء، لقد عرض عَلّي عَذَابهمْ أدنَى من هَذِه الشَّجَرَة- لشَجَرَة قريبَة من نَبِي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله عَزَّ وَجَلَّ {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} إِلَى قَوْله {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم} وَأحل الْغَنِيمَة». أخرجه مُسلم بِهَذِهِ الْحُرُوف كلهَا. وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: «فلقي النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ذَلِك عمر فَقَالَ: كَاد أَن يصيبنا من خِلافك بلَاء» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.

.الحديث الخَامِس بعد الْخمسين:

وَهُوَ الحَدِيث الثَّانِي مِمَّا نَحن فِيهِ عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل فدَاء أهل الْجَاهِلِيَّة يَوْمئِذٍ- يَعْنِي يَوْم بدر- أَرْبَعمِائَة».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِم، وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَأعله ابْن الْقطَّان بِأَن قَالَ: من أَبُو العنبس وَلَا يعرف اسْمه وَلَا حَاله. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ.
وَقَالَ أَحْمد فِي مُسْنده: ثَنَا عَلّي بن عَاصِم عَن حميد عَن أنس قَالَ: «اسْتَشَارَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس فِي الْأسَارَى يَوْم بدر فَقَالَ أَبُو بكر: نرَى أَن تَعْفُو عَنْهُم، وَتقبل مِنْهُم الْفِدَاء».

.الحديث السَّادِس بعد الْخمسين:

وَهُوَ الحَدِيث الثَّالِث مِمَّا نَحن فِيهِ عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رجَالًا من الْأَنْصَار اسْتَأْذنُوا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: ائْذَنْ لنا فلنترك لِابْنِ أُخْتنَا عَبَّاس فداءه. فَقَالَ: لَا تدعون مِنْهُ درهما».
رَوَاهُ البُخَارِيّ. قَالَ ابْن إِسْحَاق فِي قصَّة بدر: وَكَانَ فِي الْأسَارَى أَبُو ودَاعَة السَّهْمِي، فَقدم ابْنه الْمطلب الْمَدِينَة فَأخذ أَبَاهُ بأَرْبعَة آلف دِرْهَم، فَانْطَلق بِهِ ثمَّ بعثت قُرَيْش أَن فدي الْأسَارَى، فَقدم مكرز بن حَفْص فِي فدَاء سُهَيْل بن عَمْرو، فَقَالَ: اجعلوا رجْلي مَكَان رجله وخلوا سَبيله حَتَّى يبْعَث إِلَيْكُم بفدائه، فَخلوا سَبِيل سُهَيْل وحبسوا مكرزًا قَالَ: ففدى كل قوم أسيرهم بِمَا رَضوا. قَالَ: وَكَانَ أكبر الْأسَارَى يَوْم بدر فدَاء الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُوسِرًا وافتدى نَفسه بِمِائَة أُوقِيَّة ذهب.

.الحديث السَّابِع بعد الْخمسين:

عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «لما بعث أهل مَكَّة فِي فدَاء أَسْرَاهُم بعثت زَيْنَب فدَاء زَوجهَا أبي الْعَاصِ بن أبي الرّبيع بمالٍ، وَبعثت فِيهِ بقلادة لَهَا كَانَت عِنْد خَدِيجَة أدخلتها بهَا عَلَى أبي الْعَاصِ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم رق لَهَا رقة شَدِيدَة، وَقَالَ: إِن رَأَيْتُمْ أَن تطلقوا لَهَا أَسِيرهَا وتردوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا. فَقَالُوا: نعم، وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ عَلَيْهِ أَو وعده أَن يخلي سَبِيل زَيْنَب إِلَيْهِ، وَبعث رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم زيد ين حَارِثَة ورجلًا من الْأَنْصَار، فَقَالَ لَهما: كونا بِبَطن يأجج حَتَّى تمر بكما زَيْنَب فتصحبها حَتَّى تأتيا بهَا».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِإِسْنَاد حسن، لَا جرم رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه إِلَى قَوْله: «نعم» بِزِيَادَة عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. ذكره فِي تَرْجَمَة الْعَبَّاس رضى الله عَنهُ، وَكَذَا فِي ترجمتها، وَكَذَا فِي الْمَغَازِي والسرايا من المناقب. وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي الْمسند إِلَى قَوْله: «نعم» وَزَاد «فأطلقوه وردوا عَلَيْهِ الَّذِي لَهَا».

.الحديث الثَّامِن بعد الْخمسين:

قَالَ الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ثمَّ أسر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَامَة بن أَثَال الْحَنَفِيّ بعد فمنَّ عَلَيْهِ، ثمَّ عَاد ثُمَامَة ابْن أَثَال بعد وَأسلم وَكَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب.
قلت: وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَى مُسلم فِي صَحِيحه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بعث رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم خيلًا قَبِل نجد فَجَاءَت بِرَجُل من بني حنيفَة يُقَال لَهُ ثُمَامَة بن أَثَال سيد أهل الْيَمَامَة فربطوه بِسَارِيَة من سواري الْمَسْجِد، فَخرج إِلَيْهِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَاذَا عنْدك يَا ثُمَامَة؟ فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّد خير، إِن تقتل تقتل ذَا دم، وَإِن تنعم تنعم عَلَى شَاكر، وَإِن كنت تُرِيدُ المَال فسل تعط مِنْهُ مَا شِئْت. فَتَركه رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى إِذا كَانَ من الْغَد، قَالَ: مَا عنْدك يَا ثُمَامَة؟ قَالَ مَا قلت: إِن تنعم تنعم عَلَى شَاكر، وَإِن تقتل تقتل ذَا دم، وَإِن كنت تُرِيدُ المَال فسل تعط مِنْهُ مَا شِئْت. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: أطْلقُوا ثُمَامَة. فَانْطَلق إِلَى نخل قريب من الْمَسْجِد فاغتسل ثمَّ دخل الْمَسْجِد. فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، يَا مُحَمَّد، وَالله مَا كَانَ عَلَى وَجه الأَرْض أبْغض إليَّ من وَجهك، فقد أصبح وَالله وَجهك أحب الْوُجُوه كلهَا إليَّ، وَالله مَا كَانَ دين أبْغض إليَّ من دينك فقد أصبح دينك أحب الدَّين إليَّ، وَالله مَا كَانَ من بلدٍ أبْغض إليَّ من بلدك، فَأصْبح بلدك أحب الْبِلَاد كلهَا إليَّ، وَإِن خيلك أخذتني وَأَنا أُرِيد الْعمرَة فَمَاذَا ترَى؟ فبشره رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمره أَن يعْتَمر فَلَمَّا قدم مَكَّة قَالَ لَهُ قَائِل: أَصَبَوْت؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أسلمت مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا وَالله لَا تأتينكم من الْيَمَامَة حَبَّة حِنْطَة حَتَّى يَأْذَن فِيهَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم».

.الحديث التَّاسِع بعد الْخمسين:

عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض}: إِن ذَلِك يَوْم بدر وَفِي الْمُسلمين قلَّة، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سلطانهم أنزل الله تَعَالَى بعْدهَا فِي الْأسَارَى {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء} فَجعل اللهُ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمُؤمنِينَ فيهم بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ قتلوهم، وَإِن شَاءُوا استعبدوهم، وَإِن شَاءُوا فادوهم».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه فِي أَبْوَاب الْأَنْفَال من حَدِيث عبد الله بن صَالح، ثَنَا مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن عَلّي بن أبي طَلْحَة، عَن ابْن عَبَّاس... فَذكره بِمثلِهِ سَوَاء إِلَّا أَنه قَالَ بدل: «وَفِي الْمُسلمين قلَّة» «والمسلمون يَوْمئِذٍ قَلِيل» كَمَا سَاقه الْبَيْهَقِيّ، بعد أَن ترْجم عَلَيْهِ بَاب استعباد الْأَسير وَلم يعقبه بإعلال وَهُوَ مُنْقَطع.
قَالَ دُحَيْم: عَلّي بن أبي طَلْحَة لم يسمع التَّفْسِير من ابْن عَبَّاس. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: عَلّي بن أبي طَلْحَة، عَن ابْن عَبَّاس: مُرْسل وَقَالَ أَحْمد: لَهُ أَشْيَاء مُنكرَات. وَقَالَ يَعْقُوب الْفَسَوِي: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ- إِن شَاءَ الله- مُسْتَقِيم الحَدِيث، وَلكنه كَانَ يرَى السَّيْف. نعم أخرج مُسلم حَدِيث «سُئِلَ عَن الْعَزْل»، وَكَذَا أخرج مُسلم لمعاوية بن صَالح، وَإِن كَانَ ابْن أبي طَلْحَة لَا يحْتَج بِهِ، وَأخرج البُخَارِيّ لعبد الله ابْن صَالح.

.الحديث السِّتُّونَ:

عَن معَاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْم حنين: لَو كَانَ الاسترقاق جَائِزا عَلَى الْعَرَب لَكَانَ الْيَوْم، إِنَّمَا هُوَ أسر أَو فدَاء».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مُحَمَّد- هُوَ ابْن عمر الْوَاقِدِيّ- عَن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث، عَن أَبِيه، عَن السَّلُولي، عَن معَاذ بن جبل أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْم حنين: «لَو كَانَ ثَابتا عَلَى الْعَرَب سبي بعد الْيَوْم لثبت عَلَى هَؤُلَاءِ وَلَكِن إِنَّمَا هُوَ أسار وفدى» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف. قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِي: وَقد سَبَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بني المصطلق وهوازن وقبائل من الْعَرَب، وأجرى عَلَيْهِم الرّقّ حَتَّى منّ عَلَيْهِم بعد، فَاخْتلف أهل الْعلم بالمغازي فَزعم بَعضهم «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أطلق سبي هوَازن قَالَ: لَو كَانَ تَامّ عَلَى أحد من الْعَرَب سبي لتم عَلَى هَؤُلَاءِ وَلكنه إسار وَفِدَاء».
قَالَ الشَّافِعِي: فَمن ثبَّت هَذَا الحَدِيث زعم أَن الرّقّ لَا يجرى عَلَى عَرَبِيّ بِحَال، وَهَذَا قَول الزُّهْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ، وَيروَى عَن عمر بن الْخطاب، وَعمر بن عبد الْعَزِيز. قَالَ الشَّافِعِي: أخبرنَا سُفْيَان، عَن يَحْيَى بن يَحْيَى الغساني، عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، وأبنا سُفْيَان، عَن رجل، عَن الشّعبِيّ أَن عمر قَالَ: «لَا يسترق عَرَبِيّ». وَأخْبرنَا عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن الْمسيب. قَالَ فِي الْمولى ينْكح الْأمة: يسترق وَلَده. وَفِي الْعَرَبِيّ ينْكح الْأمة: لَا يسترق وَلَده، عَلَيْهِ قِيمَته.
قَالَ الشَّافِعِي: وَمن لم يثبت الحَدِيث عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ذهب إِلَى أَن الْعَرَب والعجم سَوَاء وَأَنه يجْرِي عَلَيْهِم الرّقّ حَيْثُ جَرَى عَلَى الْعَجم. قَالَ الرّبيع: وَبِه يَأْخُذ الشَّافِعِي.
قلت: وَقد أخرج الطَّبَرَانِيّ هَذَا الحَدِيث فِي أكبر معاجمه من طَرِيق آخر، فَقَالَ: ثَنَا أَحْمد بن رشدين، ثَنَا أَحْمد بن صَالح، ثَنَا ابْن وهب، أَخْبرنِي يزِيد بن عِيَاض، عَن مُوسَى بن مُحَمَّد التَّيْمِيّ، عَن ابْن شهَاب، عَن البلوي، عَن معَاذ بن جبل أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَو كَانَ ثَابتا عَلَى أحد من الْعَرَب رق كَانَ الْيَوْم، إِنَّمَا هُوَ إسار أَو فدَاء».

.الحديث الحَادِي بعد السِّتين:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله...». الحَدِيث وَهُوَ حَدِيث صَحِيح تقدم بَيَانه فِي الْبَاب قبله وَغَيره.

.الحديث الثَّانِي بعد السِّتين:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِن الْقَوْم إِذا أَسْلمُوا أحرزوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من رِوَايَة أبان بن عبد الله بن أبي حَازِم. عَن عُثْمَان بن أبي حَازِم عَن أَبِيه، عَن جده صَخْر «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم غزا ثقيفًا، فَلَمَّا سمع صَخْر بذلك ركب فِي خيل يُمِدُ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ نَبِي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قد انْصَرف ولمُ يُفْتَح، فَجعل صَخْر يَوْمئِذٍ عهد الله وذمته أَن لَا يُفَارق هَذَا الْقصر حَتَّى ينزلُوا عَلَى حكم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يفارقهم حَتَّى نزلُوا عَلَى حكم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكتب إِلَيْهِ صَخْر:
أما بعد، فَإِن ثقيفًا قد نزلُوا عَلَى حكمك يَا رَسُول الله وَأَنا مقبل بهم وهم فِي خيل. فَأمر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّلَاةِ جَامِعَة فَدَعَا لأحمس عشر دعواتٍ: اللَّهُمَّ بَارك لأحمس فِي خيلها ورجالها. وَأَتَاهُ الْقَوْم فَتكلم الْمُغيرَة فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن صخرًا أَخذ عَمَّتي وَدخلت فِيمَا دخل فِيهِ الْمُسلمُونَ. فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا صَخْر، إِن الْقَوْم إِذا أَسْلمُوا أحرزوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ فادفع إِلَى الْمُغيرَة عمته. فَدَفعهَا إِلَيْهِ، وَسَأَلَ نَبِي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاء لبني سليم قد هربوا عَن الْإِسْلَام، وَتركُوا ذَلِك المَاء، فَقَالَ: يَا نَبِي الله، أنزلنيه أَنا وقومي. قَالَ: نعم. فأنزله وَأسلم يعْنى السلميين فَأتوا صخرًا فَسَأَلُوهُ أَن يدْفع إِلَيْهِم المَاء فَأَبَى، فَأتوا نَبِي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: يَا نَبِي الله، أسلمنَا وأتينا صخرًا ليدفع إِلَيْنَا المَاء فَأَبَى علينا. فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا صَخْر، إِن الْقَوْم إِذا أَسْلمُوا أحرزوا أَمْوَالهم ودماءهم فادفع إِلَى الْقَوْم مَاءَهُمْ. قَالَ: نعم يَا نَبِي الله. فَرَأَيْت وَجه رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تغير عِنْد ذَلِك حمرَة حَيَاء من أَخذه الْجَارِيَة وَأَخذه المَاء»
.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَيْسَ بِقَوي. وَقَالَ عبد الْحق: عُثْمَان بن أبي حَازِم لَا أعلم رَوَى عَنهُ إِلَّا أبان بن عبد الله. وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْن الْقطَّان: وَأَبُو حَازِم بن صَخْر لَا يعرف رَوَى عَنهُ إِلَّا ابْنه عُثْمَان وَلَا يعرف بِغَيْر هَذَا الحَدِيث.
قلت: وَعُثْمَان ذكره ابْن حبَان فِي ثقاته لَكِن لم يذكر لَهُ رَاوِيا غير أبان الْمَذْكُور، وَأَبَان هَذَا هُوَ ابْن عبد الله البَجلِيّ الْكُوفِي. قَالَ فِيهِ يَحْيَى بن معِين: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ.
وَقَالَ أَحْمد: صَدُوق، صَالح الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ مِمَّن فحش خَطؤُهُ وَانْفَرَدَ بِالْمَنَاكِيرِ، وَمَعَ هَذَا فَأخْرج لَهُ فِي صَحِيحه حَدِيثه، وصخر هَذَا هُوَ أَبُو حَازِم صَخْر ابْن العَيْلة، قَالَه البُخَارِيّ. وَيُقَال ابْن أبي العَيْلة البَجلِيّ الأحمسي عداده فِي صَخْر بن العيلي. قَالَ البُخَارِيّ: وَيُقَال ابْن أبي العَيٍْلة البَجلِيّ فِي الْكُوفِيّين، لَهُ صُحْبَة. والعيلة- بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة تَحت وَبعدهَا لَام مَفْتُوحَة ثمَّ تَأْنِيث- اسْم أمه. قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ: لَيْسَ لصخر غير هَذَا الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالِاسْتِدْلَال إِنَّمَا وَقع بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: «إِن الْقَوْم إِذا أَسْلمُوا أحرزوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ» فَأَما اسْتِرْدَاد المَاء من صَخْر بعد مَا ملكه بِتَمْلِيك رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه فَإِنَّمَا يشبه أَن يكون باستطابة نَفسه وَلذَلِك كَانَ يظْهر فِي وَجهه أثر الْحيَاء. وعمة الْمُغيرَة إِن كَانَت أسلمت بعد الْأَخْذ فَكَأَنَّهُ رَأَى إسْلَامهَا قبل الْقِسْمَة يحرز مَا لَهَا، وَيحْتَمل أَن يكون إسْلَامهَا قبل الْأَخْذ.